طريد الظل
مجموعة قصصية منشورة
للقاص والروائي
سعادة عوده ابو عراق
القصة رقم (29) :
اللبــــؤة
أيتها اللبؤة المهيبة ، لست كما عهدناك في البراري ، متيقظة بلا حدود ، شامخة على المدى، وديعة رائعة ، تنظرين إإلى السباع ، فترينها واجفة وجلة , لا تقترب من حياضك بل تتفر عنك خائفة ، ترقب حركاتك متهيبة ، فتمتلئين ثقة عارمة بنفسك ، وتتساءلين بخيلاء ، عن تأثيرك العميق في روع السباع ووجدانها .
ها أنت تخرجين الآن غير عابئة ، بل كسولة متخاذلة ، لست جائعة ولا تملكين رغبة بالصيد، تتبعين ذاك الذي يشبه القرد ، تدلفين معه إلى ساحة الضجيج والصراخ ، دائرية تحيط بها الشموس الساطعة الملونة ، فما أحوجك إلى الخروج السريع من هذا الضيق الرحب ، الذي لا تميزين به شيئا ، ولا ترين بوضوح لأكثر من مدى ذراعك ، وهذا الذي يشبه القرد يحرك ذنبا طويلا ، يخرج منه صوتا كلما لامس الأرض ، يشبه الأفعى التي تكرهينها ،حتى صار يستفزك رأس عصا لامع ، يستنهض فيك بعض الهمة، يبتعد عنك فتتبعينه ، فتستقر بك اللعبة على مرتفع، فيثار ضجيج من حولك ، توازنين وقفتك ، فتومض ذاكرتك ، إلى حيث كنت تستشرفين المدى ، وتشمين رائحة الأيائل ، لكن !!… أي رائحة تلك التي تفيض عليك الآن ؟ أدخان حرائق أم بخار أنفاس رطب ؟
يتحرك هذا الشيء مرة أخرى ، ويكاد أن يغضبك ، لولا حنينك إلى شبلك الذي تصطادين نفحاته بصعوبة من تلابيب ذاكرتك ، وبؤرة الاستفزاز تقترب من انفك ، تدفعينها بضربة يد ، تخطئينها ، وتبتعد كما لو تناكفك ، تودين التخلص من هذا الإزعاج المتكرر ، تلحقينها بقفزة فتجدين نفسك على مرتفع آخر ، وتختفي ، فلعلها مضت إلى الأبد ، فاستشعري أثداءك المترجرجة المحتقنة حليبا ، وتنسمي حنين الأمومة الشارد ، وتنبهي لخلجات قلبك التي استفاقت للتو .
يعلو الضجيج كما بعد كل قفزة ، فلماذا لا تكترثين بهذا الذي يؤرجحك بين الاستفزاز والسكون ؟ ولا يترك لك فرصة الانقضاض عليه ، غريب أن تموت فيك غريزة الافتراس كلما دخلت هذا المكان ! فكم تتشهين لحما طازجا من وعل أو غزال ، تعبق منه رائحة الدم الحار ، تنتشين انتصارا وأنت تسيطرين على حركاته العشوائية اليائسة، وتكمّين على استغاثاته المخنوقة بفكيك ، وحين تعانين ثقله وهو مجرور من حلقومه ، تأتين به منهكة إلى الليث ، فتستقبلك نظرات الرضا في عينيه ، و تتقافز أشبالك ابتهاجا ، أين شبلك الذي لعقت جسمه وشممت رائحته المميزة ؟ وكيف لا تنقضّين على هذا الذي يتحرك كالقرد ، إنك لا تحبين القرود ، وفرارها الجبان فوق الأغصان ، لقد كففت منذ زمن عن مطاردتها ، لكن ألا يستحق هذا تمزيقا عنيفا ، انك لست في المزاج الغريزي الملائم، فحبذا لو تتمكنين منه قبل أن يُقدم لك اللحم الخالي من الدم .
وتقفزين على مرتفع ثالث ورابع ، تلاحقين بقعة لامعة ، تستنفدين قواك ، وتودين الخلود إلى الراحة ، هاهو يستجيب لأمنياتك ، وتمضين خلفه كما تمنيت إلى الدهليز ، وتنتهين إلى مربضك المعتاد ، ناعسة متعبة وما زلتِ تعانين غبشَ الإبصار ، وتفتقدين شبلك ، حلمات اثدائك محتقنة ، ورائحته تهب عليك ، وتكادين تمييز ذاك النمر الحقير ، الذي يتيه بما على جلده من خطوط ، لكن من أين له هذه الجرأة كي يقترب منك كل هذا الاقتراب ، لست معنية بتأديبه الآن ، ربما ستكونين اكثر نشاطا بعد قليل ، انه يلهو بقط ، فهذا الدنيء لا يترفع عن الأرانب والسناجب ، فأنى له بالأنفة التي تربأ به عن افتراس القطط .
ها أنت تشعرين بالإنتعاش ، وانت تستعيدين بعض وعيك وقدرتك على الأبصار الصحيح، فترين بوضوح ذاك النمر المبتذل ، الذي لم تحفلي يوما بايذائه رغم كرهك له ، فهو من رعيتك و لا يجمل إهانته ،لكن يلزمه تأديب كي يكفَّ عن إيذاء القط الذي يموء ويقاوم افتراسه ، استغاثة تدركين معناها ، يخالجك الشجن وتذكرين شبلك الشبيه بهذا القط .
هل اتسعت دائرة وعيك ؟ فالشبل في بؤرتها ، لقد أصبحتِ اكثر قدرة على الإبصار ، وتمييز الرائحة المحببة التي تهب عليك ، أهي دماء القطط ؟ لست على يقين ، رائحة شبلك تقتحم انفك ، تدفعك للنهوض ، فالرائحة كانت حقيقية لا تخيّلا ، يدخل ذاك الذي تتمنين افتراسه ، فيسبقك إليه النمر اللعين ، لا تبتهجين إن ناب عنك ، فأنت الآن متهيئة ، انه يقفز برشاقة نحو الرقبة ، يعض كالعادة ، فيتهاوى بلا رفس أو حراك ، لكن ما هذا الصوت الانفجاري المفزع الذي يتوالى؟ يتراجع على إثره النمر ويهوي راقدا بلا مبرر ، لم يهرب خائفا، بل نام واسترخى.
يستفيق فيكِ النشاط ورغبة التحرش ، هاهما الإثنان يستلقيان كالأصدقاء ، فلماذا لا يعاود افتراسه ، أتراه اكتفى بالقط ؟ بل أين ذاك القط البائس ،يناديك من داخل صدرك بإلحاح ، فتندفعين للبحث عنه ، عبر روائح الدم المختلفة ، تستيقظ غرائزك كاملة ، تستشعرين مخالبك وأنيابك بوضوح ، وحاجة إلى ليث لا تدرين متى غاب ، إبصارك حادٌ وانفك يقودك مرغمة كما الخطام .
ياللهول ….!! هذا شبلك الذي طالما ظننته قطا ، رأسه مضرج بالدم ، وأعضاؤه مبعثرة ، فما هذا الذي يشعل الدماء في عروقك ، ويغم على بصيرتك ، ويحقنك برغبة القتل ، اقفزي نحو ذاك الدنيء القاتل ، عضة واحدة في الرقبة لا تكفي، اسقطي عليه ، فلا وقت لتمنحيه فرصة الدفاع والهرب ، رغم بقائه راقدا بارد الجسم ، لا يستجيب لتمزيق حلقومه ، لا يغرغر ولا يرفس ، أيّ لذة ناقصة تنتابك ؟ لا بأس ، إن انـثني إلى ذاك الذي يشبه القرد، واغتسلي من إذلالــه لـك، استنهضيه بضربة كف ، هاهو يتدحرج كالجيفة ، تعضينه ولا يبالي أيضا ،تمزقينه ولا يكترث ، فما الذي يحدث على غير عادة ؟ وأي احتباس هذا الذي لم يفرغ من داخلك ؟ فيضيق على أنفاسك ، ويجعلك سالبة القيمة ، ألا تشفي الجثة غليل الانتقام ؟ لا بأس عاودي تمزيق النمر ريثما تبردين غليل الأسئلة، و لا تطيلي .. ، واذهبي نحو الشبل ، واستسلمي للبكاء ، وتساءلي عمن أغبش عينيك وحجب الحقيقة عنك ، فرأيت بغباءٍ شبلك قطا ، وقعدت مسلوبة الهمة والاقتدار ، وانتحبي إذن كلما هبت عليك رائحة شبلك العابقة بالدم ، فإنك ستظلين العمر باكية متسائلة بلا طائل .
7 / 4 / 2001