طريد الظل
مجموعة قصصية منشورة
للقاص والروائي
سعادة عوده ابو عراق
القصة رقم (30) :
الأعـــور
لو لم يكن عباس سترالله اعور ، لكان شيئا آخر ، يعيش حياة افضل ، وينعم بمستقبل اعظم، هذا ما يعتقده ويؤمن به ، ولا يبرح مؤكدا لكل من يلتقيه او يحادثه ، قائلا بكثير من الحسرة والأسى : ( كان من الممكن أن ادخل الكلية العسكرية، وان أتخرج ضابطا ، فرصة ضاعت ولم يبق إلا كلمة لو ) .ويتكلم بإسهاب مفعم بالأماني الضائعة :
_ لو دخلت الكلية العسكرية لكنت الآن عقيدا أو عميدا، وهي توطئة لأن أكون مرشحا لرئاسة هيئة الأركان ، أو قائدا للجيش ،أو في أسوأ الحالات قائدا لسلاح الدروع أو المدفعية أو المشاة .
لا يشعرك أن في هذا القول فرضا محتملا ، أو فرصة أفلتت منه ، إنما يرهقك بتفصيلات ثانوية ، كأنه يقرأ لك سيناريو محكما ، فيحسب لك سنة التخرج والسنوات التي تقتضيها كل رتبة ، بل يذكر المهمات والوظائف والدورات والتخصصات والعلاوات وسنة التقاعد ، وما سيوكل له بعد ذلك من مهمات دبلوماسية ، وتستمع له باستغراب وعجب، وتكاد أن تسخر منه ، لما في هذه الروايات من تلفيق ، لولا ما يملكه من خطاب محكم الصنع ، يظلك بكابوس من الوهم فلا تدري ما أنت سامعه ، أحقيقة أم هراء وهلوسات ، لكنك تبقى معجبا بالحديث العذب المسهب ، وكيف أتقن فنَّ القص، وخاصة حينما يقول بثقة وقناعة تامة :
_ لو تقدمت حينئذ إلى لجنة انتخاب المرشحين _ وكنت سليما _ لقبلت بكل تأكيد ، فما لديّ من قدرات قيادية فذة ، تجعلني مؤهلا لأن أكون ضابطا ناجحا .
كم يتمنى عباس ستر الله أن تلغى كل المفردات التي تتصل بعيوب العين ، أعمى ، اعور ، احول ، اعمش ، اشكل، عمص ، بل لا يطيق أن تمر بباله ، أو تأتي عرضا ضمن حديث، ولو سمعها عرضا لرأيته كيف يتغير ، يصمت فجأة ، يتنحنح، يغير وقفته أو جلسته ، بشكل يبدو واضحا ومعروفا لكل من يعرفه ، ولكن بقدر ما يتحاشى الطيبون استعمال هذه الكلمات، فإن الخبثاء يتعمدون إحراجه وإغاظته ، للتقليل من غطرسته وغلواء شعوره بالعظمة .
يبدو وهو على هذا التكوين النفسي العجيب ، اكثر الناس حضورا في الأذهان ، أهل الحي يعرفون بإسهاب تفاصيل الحادثة التي أصيب بها ، غالبا ما يبدأون الحديث بقول أحدهم:
_ لقد ضربه عناد الجوفي دون عمد
فيعلق آخر
_ماذا تعني بقولك عن عمد ؟ ألم تفقأ عينه ؟
فيرد ثالث
_ في ذلك الوقت لم يكن الطب متقدما .
_ لا… كان هنالك مستشفيات وأطباء عيون ، كما هو اليوم ، لكن أباه هو الذي عارض إسعافه الفوري
ويعقب آخر بمرارة :
_ وهل كان على عناد الجوفي أن يضربه لأنه كسر زجاج السيارة ..؟
إنها قصة ساخنة من ربع قرن أو يزيد ، يتداولها الناس ، كقصة تخص حي رويبض وحده ، يتميز بها وتتميز به ، يتوارثونها كحدث تراثي، بالرغم من رحيل عائلات عن الحي ومجيء أخرى ، فالصغار والجدد على السواء ، يرون فيها قصة مثيرة ، أما الكبار فيذكرون ذاك الطفل العنيد الشرس _ عباس _ السلطوي ، عاشق التحدي ، لا يسكت على إهانة من أحد ، فكرامته اكبر من أن تخدش ، واثمن من أن تعوض ، كان يردد المتسامحون منهم ( كل الناس ولا عباس ) ؟ أما الذين لا يطيقونه فيقولون : ( عباس…! أعوذ برب الناس ) هكذا وهو في ذروة عنفوانه ، يشتمه عناد الجوفي شتيمة سوقية ، ناهرا إياه، خشية منه على سيارته ، يأمره بان يلعب وشلته بعيدا ، فلم يطق الشتيمة فوقف متحديا وقال بصوت ممتلئ مشحون :
_ اعتذر وإلا حطمت سيارتك
ما كان يطلب اعتذارا بقدر ما يريد الإذلال انتقاما، ورد الاعتبار بإهانة مماثلة ، لم يكن هناك نديّة ، إنما وقاحة من طفل سفيه ، لذلك فالتجاهل كان الرد ، لم تعجبه نظرات الاستخفاف وصمم على تنفيذ إنذاره ، فعدَّ للثلاثة كإنذار أخير، ثم ضرب السيارة حجرا ، ذُهل عناد ولم يدر أن في يده سلكا كهربائيا ، حينما تفجرت به سورة الغضب ، وضربه مرات كثر _ كما قيل _ بجنون
أما عباس ، فما زال يروي ما حدث بالتفصيل ، كأنه يتلذذ ، فيذكر أن قامته قد طالت ، ولم يشعر بألم قط ، بل يقسم انه كاد أن يقتله ، لولا تدخل الآخرين ، أما الذين هرعوا فقد ذكروا أن والده اقسم بالطلاق أن لن يسعفه قبل أن يقلع عين عناد الجوفي ، وحيث أن الناس لم يروا مكانا لهذه العنجهية ، فقد حملوا الطفل إشفاقا ، إلا أن عباس راق له هذا الموقف ، وأصر أن لا يؤخذ للمستشفى ، وبعدما لم يتمكن أحد من قلع عين عناد ، انتشرت الآلام في مساحات كبيرة من رأسه بما لم يقو على احتمالها ، فسقط مغشيا عليه .
ولم يبق أحد في حي رويبض إلا وأذهلته الحادثة ، فخرج الرجال والنساء والوجهاء والمخاتير والشرطة والتعقيب لتطويق الحادث ، فرفض والد عباس التنازل واقسم ليقلعنَّ عين غريمه ، فوضع في السجن ، وأرغم على قبول عطوة الصلح ، فتعسف في مطالبه ، فباع عناد سيارته التي يعتاش منها ، وباع بيته الذي ابتناه حديثا ، ولم يوفِّ غرمه ، ففر خلسة إلى مكان مجهول .
منذ ربع قرن أو يزيد ، مات أبو عباس ، وترك لابنه ميراثا من الحقد والمكابرة ، تركه لثأر يعيش من اجله ، تركه باحثا عن لذة الانتقام ,
منذ ربع قرن أو يزيد ، وهو يبرر مشاريعه الخائبة ، وخوفه وفشله ، بتلك الحادثة ، يذكر حبه الأول بمرارة قائلا: ( عندما اكتشفت أن نظارتي السوداء ليست طبيّة ، بدأت تنسحب بلطف، انسحاب جندي وجد نفسه في حقل الغام ، تراجعت بحذر ، اهتمت بشكليات لا تقدم ولا تؤخر ، لكن … لا بأس ، سأجعلها تندم كثيرا ) طلبها للزواج فرفضت ، ولم يخبرأحدا إن كانت قد ندمت أم لا .
منذ ربع قرن أو يزيد ، وهو يتلمظ ليوم الانتقام ، فحينما يسمع أن عنادا في استراليا ، يقسم ليذهبن إلى هناك ، ويعد العدة للانتقام ، لكن خبرا آخر يعلمه انه في كندا ، ويبدأ إعدادا آخر ، ثم يأتي من يذكره في المانيا ، ومن يذكره في برتوريكو ، وبلاد لا يدري أين هي ، فيدرك أن عنادا وراء هذا التضليل ، أو انه يهرب حقا من انتقام مروع .
أيمكنك أن تعرف عناد الجوفي _ إذا ما التقيته _ بعد هذا الزمن الطويل ، هل تحمل له صورة ، لا…. ، فمنذ ربع قرن وأنت تحاول الاحتفاظ بملامحه سليمة في ذاكرتك ، انه قميءٌ ، ضعيف البنية ، تجاوز الخمسين ، عيناه صغيرتان مطفأتا البريق ، رقيق الشارب واللحية ، اسمر البشرة ، ولكن .. ؟ألم تعبث بها السنون بعد ؟ ربما ، ولكن ماذا لو مات عناد الجوفي ؟ فكرة قاسية تراودك ، فتقسم على الله ان يهبك فرصة اللقاء والإنتقام.
ها قد تجاوز عباس الأربعين وما زالَ عازبا ، وما زال يفتش عن عمل يملأ عليه غروره ، فعاهته التي سدت عليه كل أبواب الحياة ،تركته مهمشا في أحد المقاهي ، يبحث عن فوز له على طاولة الورق ، لكنه لم يحرزه منذ سنوات ، ويتساءل عن هذا الحظ الذي يناكفه ، ويأبى عليه الانتصار ، لكن الذين يلاعبونه متفقون على تجهيله ، ومسايرته في مقولة الحظ التي ابتدعها ، فخير لهم أن لا يعلم أن نظارته السوداء هي التي تكشف ورقه ، وهو يقربها من عينه الكليلة .
يكاد أن يطلّق فكرة البحث عن عناد الجوفي ، لولا نزيل طيار دخل المقهى ، يستعين بعصا لكي يبقى منتصب الظهر ، لاهثا كأنه صعد للتو درجا عاليا ، أو انزل حملا ثقيلا ، جلس متهالكا على كرسي ، دنا منه صاحب المقهى ، الذي جاء يسأل ما يشربه ، طلب بصوت مطفأ فنجان قهوة ، ثم اخرج ورقة من جيبه ، وقال بصوت لاهث :
_ الله يرضى عليك ، اتصل لي بهذا الرقم ، وقل له عناد الجوفي ينتظرك هنا ، اعطه عنوانك.
انتفض عباس وترك اللعب ،ودنا منه ، متفاجئا خالي الذهن ، وجلس مقابلا له على كرسي وقال كمن سيقتص منه على مهل :
_اسمك عناد الجوفي يا حاج ؟
دنا منه مستوضحا ، فاغرا فما فارغ الأسنان
_ نعم ……
لم يشعر عباس انه يتصنع الطرش فقال بصوت كالمناداة
_ أنت اسمك عناد الجوفي
_آآآآآآ …… اسمي عناد الجوفي
قالها ببراءة لا تخفى ، لكنه أصر على المفاجأة التي سيهزه بها .
_ انا عباس … عباس ستر الله
_ حياك الله ….. خدامة …؟
_ أتذكر الولد الذي ضربته على عينه وقلعتها قبل خمس وعشرين سنة ؟
كانت الجملة طويلة ، تشبث عباس بآخرها مستفسرا ببلاهة :
_ عشرين سنة ؟
لم يشعر مرة أخرى انه يصطنع الطرش ، بل بلغ مرحلة من الخرف لم يعد يعي معها شيئا.
_ أنا سأقلع لك عينيك الاثنتين.
ومد إصبعيه أمام وجهه ، لكنه لم يتفاداهما ، وكأن عباس لم يأت بحركة .
والآن …. ماذا تفعل يا عباس ؟ هاهو عناد امامك جثة تجاوزت الثمانين ، هيكل بشري محنط ، فماذا تقلع بعينين غزتهما المياه الزرقاء ؟ فقدتا الإبصار على بعد شبرين ؟ ماذا تسلب من شخص سلبته الحياة كل شيء ؟
موقف لا تحسد عليه يا عباس سترالله ، تتمنى لو لم تسلمك الحياة إلي هذه النهاية ، فلم تُمنح شرف العفو ولم تظفر بلذة الانتقام .