الجريدة والتراث
بقلم :الداعي بالخير صالح صلاح شبانة
Shabanah2007@yahoo.com
الجريدة هي مائدة كبرى ، فيها الشهي وفيها المقبلات وفيها المُرَكَز مثل حبوب الفيتامين ، وفيها البصل والثوم ، والجرجير والكُرّاث ، والبقدونس والكزبرة ، والفلفل والطعم الحَرّيف، وفيها المطبوخ والمقلي والمشوي ، وكل ما تسيل النفس إليه ، فالذي لا تحبه يحبه غيرك ويتمناه ، بل وتسيل نفسه إليه ، وكم من مليونير يعيش مثل الأرانب على الجزر المسلوق ، ولديه إمكانيات مالية هائلة يطعم بلدا مناسف باللحم البلدي الذي يشتهي الفقراء مشاهدته في محلات القصابين من وراء الزجاج ، أو يلعق اللوحة التي تقول (اللحوم في الثلاجة) ...!!!
كم يتمنى لو يأكل صحن حمص ، أو فول وفلافل ، مع رأس بصل فحل تسيل السوائل من كل فتحات جسمه مع أول قضمة منه ، أو رأس خروف مشوي أو كرشة محشوة ، أو فتتة مقادم ، يمزمز على زموع السخلة) ...!!!)
ولكن وضعه الصحي يحرمه من تلك المتعة ، ولا تشفع له ملاينه الكثيرة بتحقيق ذلك الحلم ، في حين هناك ملاين الفقراء لا يجدون رغيف الخبز ويشربون الماء الكدر الملوث ، ولديهم أجهزة هضم تطحن الحجارة ، مثل مطاحن القماش التي تحيل الأقمشة إلى قطن ، ويلتهمون الأغذية العسرة الهضم ، وكل ما هو متاح ، إن كان صالحا للاستهلاك البشري ، أو منتهي الصلاحية ، أو فاسدا ومحكوم عليه بالإعدام حرقا في مكب النفايات تحت إشراف لجان مختصة لضمان عدم تسربه للسوق مرة أخرى...!!!
أنا تراثي ، أحببت التراث وعشقته ، ووجدت فيه هويتي الأدبية الضائعة ،وجميع الأجوبة على أسئلتي المبهمة ، فهو الجذر الذي يمد الشجرة بالحياة والبقاء، وكل ما ينتج من حضارة وابداع ، دون الاكتراث بالجذر اقتلعته نسمة خفيفة ومضت به ، أو كان كرات كبيرة من فقاقيع رغوة الصابون ، أدهشت المشاهد ، وقبل أن يستمتع بمنظرها المتمازج بألوان الطيف تكون قد انفجرت ولم يبق لها أثر يذكر ...!!!
أنا فلاح تمتد جذوري في الأرض ، واخترت هويتي الإبداعية في التراث والفلكلور لقناعتي بأهميته القصوى ، ولكن الصحافة لا تفرد أي مساحة على الإطلاق للتراث الشعبي ، ولا تهتم بهذا الجزء من حياتنا ، وقد كانت ذات يوم مجلة فصلية (الريحه ولا العدم) اسمها (مجلة الفنون الشعبية الأردنية) توفاها الله ولاقت حتفها ، بجرة قلم خاطئة من مسؤول غير مسؤول اقترف تلك الجريمة النكراء دون أن يرف له جفن ، ومن حسن حظي أنني لا أعرف من هو..!! كانت تلك المجلة تصدر في أواسط السبعينيات في فورة ظهور بعض التراثيين في مرحلة تكوين التراث ، فبدأ الراحل الكبير روكس العزيزي بمعلمته الفاخرة ، وبدأ نمر سرحان وغيرهما بتأسيس مرحلة التراث ، وقد صار كل ما نشر بها على قلته ، وعلى قصر عمرها مرجعا لمعظم المراجع والموسوعات التي صدرت فيما بعد ..!!!
أزعم أنني كنت أحد الراكضين اللاهثين خلف ركب الثقافة ، وأحاول التحصيل منها ما استطعت من قوة ، وقد اقتنعت بأن التراث الشعبي هو طابو الأرض ، والهوية هي بصمة يد الفلاح الخشنة على كابوسة عود الحراث ، وأن الرواد الأوائل الذين أخلصوا للأرض ، حافظوا عليها ، وكانت البلاد تُصَدِّر القمح ، وهناك اكتفاء ذاتي ، حتى السماء كانت رحيمة تجود بالمطر ، وتمتلئ بالمواسم الشعبية التي أصبحت مجرد أشياء أو خرطشات على ما بقي من الذاكرة ، والأمة بحاجة إلى الاتصال الدائم ، وأن لا ينقطع الخيط بين الأجيال ، فالتراث هو: (أن لا أعيش الماضي كما عاشه الآباء والجدود ، بل أعيش حاضري وأستعمل أدوات الطبخ من البتوغاز إلى المايكرويف على أن لا أنسى قدور الفخار والنحاس ، ونار الحطب) فإذا تذكرت أن جدتي كانت تطبخ العدس في قدرة الفخار ، وكانت أكلة شهية لا تنسى ....!!!
التلفزيون الأردني أبرز مرة برنامجا رائعا اسمه (قناديل) ، كان مليئا بروح الماضي الجميل ، وكانت جذوره الحية تنبض بالحب والأحاسيس ، وكنت أنتظره أسبوعيا لمشاهدته والاستمتاع بفقراته الرائعة ، مع أنه لم يكن كاملا ولم يتتبع منابت الأردنيين المختلفة ، وهي التي تميز الأردن عن غيره وتعطيه جمالية خاصة ، ولو تم عدم إغفال هذه النقطة لكان قدم لنا برنامجا أكثر ثراء ، وتميزا ، واستقطب أعدادا من المشاهدين أكثر ، وأدى إلى مسح تراثي شامل...!!
توفيق النمري مثلا ، نجح على مدى أكثر من خمسين عاما من مسيرته الفنية ، وقدم أكثر من ألف عمل فني ، مع أنه بدأ متأخرا ، بعد الخامسة والأربعين ، عندما يتقاعد البعض تقاعدا مبكرا ، بدأ هو رحلته المضيئة ، وصنع تراثا غنائيا أردنيا قلما يصنعه غيره ، وتميز النمري أنه كان يبحث بنفسه بين الناس عن الألحان ويأخذها شفهيا من الناس ، ويعيد صياغتها ، ويؤلف موسيقاها ويقدمها بأروع صورة ، فأصبح تاريخا شاهدا على الفن الشعبي الذي يعمر ، وليس مثل الفقاقيع التي تصدر هنا وهناك وتتقيأها الكثير من الفضائية وتفسد بها أذواق الناس وتؤدي إلى انحراف الأجيال ، لا تخرج حتى تتلاشى...!!!
الجريدة هي مائدة تحتوي على الكثير من حاجياتنا إلا التراث الشعبي ، وأرجو أن يكون للتراث إطلالة على صفحات الصحف اليومية والأسبوعية ، فالتراث يتجدد كلما انقضى عقد من الزمن ، بل وأقل في ظل التسارع في عجلة الزمن ، وفقدان الأهمية بذلك ......!!!!!