حارس التراث
تحية خاصة للدكتور محمد غوانمة
بقلم :الداعي بالخير صالح صلاح شبانة
Shabanah2007@yahoo.com
يعتبر أستاذ الموسيقى الدكتور محمد غوانمة حجة في حماية وصيانة وبناء مفهوم جديد للتراث الشعبي الأردني ، وبعثه من جديد بطريقة علمية جذابة تبهر العقل بخفتها وحلاوتها وطلاوتها ، حارسا للتراث الغنائي والموسيقي الأردني ، وأمينا لخزائنه ، أردني القلب والهوى ، يذوب في الترانيم ودقة المهباش ، يفوح بالشيح ورائحة عرار (مصطفى وهبي التل) صاحب الإرث الشعري الأردني الأصيل .. واربد الشماء الغنية بفنونها الإبداعية الرائعة ...!!!
أما إذا أطل قائدا لفرقة اربد للفنون الشعبية، أطل علينا بإطلالته التراث الشعبي الأصيل ، ونقلنا إلى رحلة نغوص في رحم الأردن المعطاء ، الغني بكنوزه الإبداعية ، الذي لا زال التنقيب جاريا عن قيمتها الكبيرة ، وكل ما وصلنا منه غيض من فيض،نأمل بالدكتور محمد وتلامذته خريجي الجامعة الاستدلال عليه واستخراجه لنا قريبا ...!!!
هذا الفنان الكبير بعطائه وبموقعه الأكاديمي ، يحمل أعلى الدرجات العلمية (الدكتوراه) ، تراه بسيطا ، رائعا ، تنساب الألحان الأردنية العذبة من على أصابعه التي تدير الفرقة الموسيقية ، حتى يفتح القلب ليتلقى هذه الأنغام الرائعة ...!!
زقزقات الطيور وحفيف الأشجار وهجيني الحراث ، وصوت تكسر السبل على البيادر تحت لوح الدراس ، وغناء الجنادب والزيز ، وحركات أجنحة الفراش الطائرة ، ورائحة أزهار وأعشاب الأردن العطرية ، وغيرها من لوحات الريف والبدو الرائعة ، فالريف له روعة وجمال ، وكذلك للصحراء ، يستلهمها غوانمة بموهبته الخصبة وبعلمه الأثير ، ومثابرته وحبه لبلده وأصالته ، يجودها علينا ، فيملئنا بالفرح ، وتنعقد حلقات الدبكة والحبل المودع على أنغام هذه الأصالة .. وتنساب على الشفاه ينابيع من الفرح ، والغناء الرقيق ، والحب العفيف غير المبتذل الرخيص ، حب الأردن وأصالته ، وعشق ترابه وحضارته ...!!!
هذا الفنان الأكاديمي الملتزم ، الذي يستخرج من رائحة التراب الأردني عبق الألحان ، وهو دائب العمل والتحليق ، لا يكل ولا يمل ، تراه من البروفة للمسرح ، لقاعة الدرس ، لأعداد البرامج الإذاعية والتلفزيونية وتقديمها ، للتأليف والبحث العلمي ، لممارسة حياته العادية ، فهو مثل النحلة دائم العمل والحط من زهرة إلى أخرى ، من حديقة إلى خميلة ....!!!
جعل من الربابة آلة معروفة بما كتب عنها ، وعن أشهر من حملها (عبده موسى) وعزف وغنى عليها ، فهي من أقرب الآلات إلى النفس والقلب ، لحنانها ودفئها وجذلها وأشواقها المبثوثة ، وهي تمثل الصحراء بامتياز، يبث البدوي كل أشواقه لوترها الوحيد، فتقول عنه كل ما سمع وأحس ورأى، فتصير راوية التاريخ عنه وعن بيئته وبطولاته وتنهدات قلبه ، وقداسة وبراءة حبه ، ناطقة فصيحة ، وراوية أمينة له وعنه ...!!!
الدكتور محمد غوانمة ...حارس التراث الأردني ، وأمين خزائنه ، الذي لا يهنأ له شراب إلا إذا شربه من ينابيع موسيقاه وألحانه الجذلى ، الذي جعل من فن القرية فنا رفيعا ، فهو يزرع غراسه ويشذبه ويسقيه من روحه المعطاءة فينمو هذا الفن ويصبح على الشفاه سلسا تهتز له النفوس طربا....!!!
محمد غوانمة الذي وهب عمره المعطاء للأجيال لتعليمها ثقافة الوطن الشعبية ، التي تدل على تاريخ وجذور هذا الوطن ، وانهم ينتمون لوطن مهدا للحضارات وقيمها العظيمة ، ولا يشق لتاريخه غبارا ، وأن هذا التاريخ مثل ماء نهر الأردن ، محج المسيحيين من كل أقطار الأرض ، معرض للسرقة والاستلاب من الذين ليس لهم مثل عظمة هذا التاريخ والتراث ، وهذه الكنوز بحاجة لمن يحفظها ويحافظ عليها ، بل ويقاتل من أجلها ، فهي مثل شرف أمه وجدائل أخته ، هي شرفه وعرضه ، ومن يستهين بها يستهين بكل قيم ألأولين ...!!!
محمد غوانمة الذي يعلمنا كيف ننتمي للتراب الحُر ، التراب الذي كان ينبت القمح ، والزيتون ، فزرعناه بالأسمنت ، ولا زال ينبت الشيح والزعتر ، يعلمنا كيف نطرب وتحلق نفوسنا على دقة المهباش ، وجرة الربابة ، وعلى السامر والهجيني ، وايقاع الخلاخيل في أقدام الصبايا ، وخرخشة التراكي في آذانهن ...يرسم الألحان كما ترسم الصبايا الكحلة على أجفانهن ، فتنطق عيونهن بالإلهام للشعراء والعشاق ، فتفوح الأرض برائحتها الطيبة ، وتهتز الزروع على الحان الأردن الذي ينقلها ابنه البار الدكتور محمد غوانمة...!!!
بعد أن شاخ من شاخ ، وفقد بوصلة الإبداع من الشيخوخة والمرض مثل توفيق النمري ، جمل المحامل ، الذي أعطى بصمة للحن الأردني الجميل ، ورحل من رحل ، مثل جميل العاص ، تقدم محمد غوانمة وحمل راية حراسة الفن الأردني ، أو مفتاح الكنز التراثي الموسيقي الأردني ، وأعلى الراية من فوق رأسه ، وهو جدير بما حمل ، وهو نِعمَ الموسيقار الذي كلفته الأمة بحمل روحها وإرثها وجلاء أدرانها ، وتصحيح ما اعوّج به اللسان ، حتى يخرج النطق سليما ، والغناء شجيا ....!!!!
للدكتور محمد غوانمة الفنان الأكاديمي ، ولفرقة اربد للفنون الشعبية ، وكل الذين يقفون أمامها يشدون بألحاننا الأصيلة ...تحية من القلب إلى القلب ...!!!
نشرت في جريدة الديار الأردنية في 27/2/2005م