طريد الظل
مجموعة قصصية منشورة
للقاص والروائي
سعادة عوده ابو عراق
القصة رقم (31) :
حارس المرمى
شاكر يسري ، رجل كادح ، لا يعلم عنه الناس كثيرا ، لا يعني شيئا في ذهن الجيل الحاضر ، يبدو في الاسم رنين ، يوحي باسم شهيرٍ من أبطال الشاشة ، عذب في السمع ومألوف ، وبه جرس يحفز ذهنك كي تتذكر ، لكن لا يذكر هذا الاسم , إلا من بلغ الستين ، حين يعود إلى تذكار الأيام الغضة ، في عهد كانت فيه (الكورة ) تشعل في الروح المتعة،حين يُصفَّق من حول الملعب أو يُهتف :
_ شاكر ، شاكر ، خلك شاطر…
أو حين يصير الدوري اقرب للحسم :
_ شاكر يسري بدنا الدوري ..
ما كان الاستاد الواسع قد شيّد بعد ، كان التشجيع الصادق يعبق بالتصفيق ، يصل اللاعب شاكر دون عناء ، أو هم يصلون إليه، تحمله الأيدي مبتهجة بعد الشوط ، وتحييه بنثر الورد عليه ، وتوزّع حلوى، يغمره إعجاب الناس، يغدو بطلا من أبطال الإغريق، تنثال عليه هدايا من كل الناس ، ساعات ، كمرات ، أحذية وملابس ، أقمشة وعطور ، باقات وبطاقات سفر ، بوليصات ، بل سيارة مرسيدس أهدتها الشركة تشجيعا أو إعجابا .
أما اليوم ، لا يملك شاكر يسري غير الذكرى ، يمضي جلّ الوقت يتصفح البوماته ، كنـزا من صور ينثرها حينا بعد الآخر ، ويرتبها في نسق ، أو نمط ثان ، يجعلها حسب الأوضاع ؛ حين يصد التسديدات ، أو حين يكرّم بعد الفوز ، أو حين يشارك في منتخب الدولة ، أو يتقابل مع ساسة ، لكن قد يسأم هذا الترتيب ، فيعود إلى النهج التاريخي ، في المدرسة، فالنادي ، فالمنتخب الوطني، يستمتع وقتا ، ثم يعود يرتبها حسب أهميتها ، دوما يسعفه الذهن بإسلوب آخر ، يتفنن بالترتيب ، يمضي وقتا غير يسير، تغتاظ الزوجة حين ترى خزانتها ممتلئة ؛ أوسمة وكؤوسا ومداليات ، يفخر وهو يشاهدها ، لكن الزوجة لا تدري كيف تصفُّ التحف ، وفناجين القهوة ، اذ يصرُّ على أن يبقى محتكرا للفترينة .
لا يختلف اثنان من سوّاقي حي المنطار ، أن السائق شاكر من اكسل خلق الله ، لا يأتي للخط إلا بعد مرور الساعات الدسمة , بعد وصول الناس إلى وظائفهم ، يوقف سيارته منتظرا ، لا يعبأ فيمن يسأله عن هذا التأخير ، ويقول مستور، يكفيه بنزين السيارة والمصروف ، لا يطمح للأكثر ، حين يحصلّها يوقف سيارته ، ويعود إلى أشيائه .
ولشاكر ثرثرة تتميز بنكهتها ، بل صارت جزءًا من تكوين نفسي يُعرف به ، يتكلم عن تاريخه ، يذكر معتزا إذ صنف يوما أفضلَ حارس مرمى ، بل افضلَ لاعب ، لا يتوانى إن آنس أذنا صاغيةً أن يخرج صورا ، ويريها للركاب ، يبحر في قصص لا تنضب ، وحكايات اعجب بل اغرب ، حين يقص معجزة كروية، إذ امسك يوما كرة القدم محصورة في الزاوية اليمنى العلوية ، واختلف الحكّام بها ، سألوا اللجنة الأولمبية ، وجاء الرد على الفور ، لا تحسب ، يتحدث أيضا عن كرة امسكها فانفجرت بين الكفين ، يتكلم عن ذاك اللاعب ،حين صوَّبَ فانفلت الحذاء ، فطار مع الكرة ، فالتقطها، والتقط ( البوط ) معا . وحكايات أخرى اقرب للتهريج ، حتى صارت معروفة ، تتكرر باستمرار ، فيداعبه البعض ( إن أردت أن تفرح العجوز ، ذكرها بليلة عرسها ) يتوتر غضبا ، يتوقف ، وهو يصيح ؛
_ أنا عجوز يا ابن العجوز ؟!! انزل ، هيا انزل ، وهاك الفلوس ..!!
ويُغاظ اكثر حين ينادى بأبي السعيد ، لا يرغب بالكنية هذه ، وسعيد هذا الابن البكر ، بلغ العشرين أو اكثر ، وابنته الأصغر ، زوَّجها من سنتين ، اصبح جدا ، ينكر ذلك ، لا يرغب باسم يوحي بالعمر المتقدم ، بل ما يرجعه إلى الماضي ، شاكر يسري، اسم، يُتَغنى به ، عذب ، وله جرس أو إيحاء ، أسم فني متخير، مكتوب خلف السيارة وعلى الباب ، يُقسم دون أن يُسأل عن ذلك، أن الاسمَ حقيقي ، ضمن كثير مما اختُصَّ به ، طلبت منه مؤسسة أن تضع الاسم على قمصان تنتجها ، وافق فورا ، لم يطلب أي مقابل ، لكن حين أرادت أن تطبع ثانية ، طلب الآلاف ، رفضت ، كابر ، فلم تقبل .
سيارته المرسيدس كم هي أثيرة ! اثمن ما اهدي إليه أيام العز وإبّان الشهرة , كانت فخمة ، يحسده الناس عليها ، لكن ما اكثر ما تخرب هذي الأيام ، هرمت او أهرمها من عشرين سنة او اكثر، أنهكها بدءًا بالرحلات ، وما زال اليوم يتابع هذا الاستنزاف على خط المنطار ، إذ حوّلها من زمن سيارةً للأجرة ، فمفارقةٌ جد طريفة أن يعمل حارس مرمى سائق أجرة ، لا يعمل في التدريب أو في الإشراف ، حكما ، أو شيئا من هذا ، يذكر إذ عاد بعد سنة ، بعد إجازته المرضية ، ليرى كم صار بعيدا عن مجتمع يتغير باستمرار، كم فقد مهارته ولياقته ، كم صارت عودته للملعب صعبة ، كم بهتت سمعته وخبت ، كم هي مريرة هذه المنافسة القذرة ، كان عليه أن يتدرب على لعبة الكراسي الموسيقية، فها هم يتذرعون بالتافه لإبعاده ، ذكّرهم بمكانته ، وتسوّل بالروح الرياضية ، وبما أدى من خدمات ، ابتسموا ووعدوه ، تابع سعيه في كل نادٍ ، فلم يعط ما لم يُعطَ من ناديه الأول ، فمضى لوزارة الرياضة والشباب ، طلبوا شهادة علمية ، فتذكر أن الرياضة اختطفته قبل أن يكمل الثانوية ، طال به الوقوف أمام الدوائر والمراكز والنوادي ، ذكرهم بما خطته الصحف عنه بالقلم العريض ، صرف المال المتوفر عنده ، فاقترح عليه قريب أن يجعل من سيارته المرسيدس سيارة أجرة ، عز عليه ، لكن لا يوجد حل آخر ، غـيّر ـ على مضض ـ لون النمرة ، وسطر فوق الباب (سرفيس حي المنطار )
يوصف حينا بين السوّاقين _في منعطف الاسترخاء _ بالتشبيه المأثور بـ( بُرَّد حَلَب ) فشتاءً لا يلبس أبدا لا جاكيتا، لا كوفية ، بل تكفيه الكنـزة الصوفية ، يلبسها فوق قميص أو من دون قميص ، فهو حريص أن يُظهر حجم العضلات ، نافرة في الصدر وفي الأكتاف ، تبدو الرقبة ممتلئة ، ملفوف الساعد والعضدين ، أما في الصيف ، فقميص شفاف هفهاف ، مفتوح الأزرار حتى السرة ، يخدش أستار الحشمة عند الركاب ، فتثور الغيرة ، يهتف شخص لم يعجبه السخف البادي ، يحتج بقوة ؛
_ اخجل … هذا ما يلبسه الاولاد ، لا رجل بلغ الخمسين
يهزأ من هذا التعليق ، ويحرك عضلات الصدر استخفافا
_ من قلة ما يصح لك..!
هذه السوقية ، تتعايش مع نفس تعبق كرما حد التبذير ، في ساعات الراحة قبل الظهر ، يقصد دكان الشوّاء سليم ، يجلس حيث سليم يشوي ويناول شاكر ، يأكل ، يستمتع ، لا يأبه للدفع ، قد يدفع عن غيره ، ويكون سعيدا ، حتى لو كان استغلالا مقصودا.
ما اكثر ما عانت زوجته من هذا التبذير ، جهدت أن تضبط هذا الإنفاق ، لا تعرف ما يكسب فوق العادة ، أو من غير المتوقع ، كي يصبح توفيرا للحاجة ، لكن شاكر ، ما أن يحظى ببعض الطلبات الأخرى ، حتى يذهب في رحلة ، يشوي لحما وبطاطا حلوة أو كستنا ، يبذخ بالموز وبالإجّاص ، في اليوم التالي ، حين اضطر إلى تبديل إطار السيارة ،لم يجد المال الكافي ، فاستدان ، وراح يسدد فيما بعد، والأسرة عاشت أسبوعين دون طبيخ ، لكن لا يتعلم ، إذ حين يتوفر في يده شيء يكفي للرحلة ثانيةً ، يذهب دون تردد.
اغرب ما في الأمر أن يمضي في هذه المهنة عشرين سنة ، وإن كان ككل السواقين ، يتذمر ، يلعن ، لكن ما حاول يوما أن يخرج عن هذا الكار ، بعض الناس يقول ؛ أي حكيم ذاك الشخص ، حين أشار عليه بهذي المهنة ، لا بد وأن غاص كثيرا في نفسه ، عرف التكوين لها ، ورأى أي الأشياء تلائمه، ها هو بعد أسبوع يتأقلم ، ويجيد القول الساقط والمقذع ، وسباب السوقة ، والشتم من الشباك ، والضحك الفارغ والاستهزاء ، والثرثرة المجانية والسخف، لا يملك شخص أن يحمله على فكرة ، فهو يؤكد دوما أن لا شيء مهم، لا يسمع أخبار الساعة ، لا يقرأ ، لا يتذوق شعرا أو قصة ، يتباهى ويفلسف ذلك ( شو راح نستفيد ) لكن _ والشاهد كل الناس _ يعشق أسرار الأشخاص ، يأخذها ويمنتجها ويسوِّقها بمهارة، كخبير في كل شؤون الناس ، يعطي نصائحه مجانا كالحكماء ، لا يبغي غير الإصلاح ، بل اغرب من ذلك أن لا يعبأ بأخبار الرياضة _ فهي كما يذكر _ أدنى من أن يشغل فيها ذهنه ، انحطت من زمن ، لا يملك قولا غيرالشتيمة بـ (ابن الـ….) او ( اخو الـ…) يقيِّم بها كل اللاعبين ، عربا وأجانب، ما عاد يرى من هو جدير بالاهتمام، ما كان موقفة هذا دوما ، فمن عاصره يعرف كم كان متـزن التقييم
كل من يعرفه في المهنة أو في الأسرة يدرك كم تتغير نفسيته نحو الأسوأ ، ويعاني قلقا بشعا وسلوكا نزقا ، قال له احدٌ يمزح ودّا( يا ابو كرش …) فظل شهرا يتأمل نفسه ، كمن أصيب بمرض السرطان ، راح يركض يوميا ويتمرن كل صباح، أما حين تحمس أحد الركاب لحراس مرمى ، ثارت فيه الغيرة ، هاجمه ، سخّف رأيه ، شعر كمن أهين بلا سبب، صار يلبس البيريه مرة ، ومرة قبعة الفرسان ، يسوق السيارة بالبدلة الرياضية ، صار مولعا بإثارة الكلام من حوله ،لا يهتم بما يتحدث الناس عنه ،بل بلغ الأمر به حد الهوس ، حين أيقن أن الناس يتحدثون بلا ملل عنه في مجالسهم ، قال وقد مر بأثنين (اكملوا.. أنا رياضي ، أتقبل النقد بروح رياضية ) فلم يعتبروا القول مزاحا ، فشخصيته كما يعلمون تذبل باطراد، فما عاد مرحا كالأول ، ولا بالحيوية المعتادة ، ربما افرغ كل حكاياته ، أو ما عادت قدرته الذهنية تسعفه كي يبتكر الحكايات ، أو ما عاد كالأول مقبولا بين الناس كما يأمل .
كان خلف المقود يتسلى بالمذياع ، يتسمّع منتظرا آخر راكب، يصغي في غير المعتاد ، يبدو برنامج رياضة ، أو حفلا للتكريم ، يسمع أسماءً يتذكرها ، يعرفها ، عبد الله الذيب ، فايز برهم ، عيسى جادو ، كان عيسى حارس مرمى ، والذيب كبتن فريق الأسد ، لا يذكر فايز بوضوح ، ربما كان جناحا لفريق الشعلة ، أو اصبح في الأعلام ، هذا ليس مهما ، فلماذا يحظون بالتكريم ؟ كيف يُسقط اسمه من بين الرواد في تاريخ الألعاب ؟ ولماذا يحرم دون سواه من الأوائل والمتقاعدين ولا يكرم ؟ انه شاكر يسري !! شيء مؤلم فوق احتمال النفس، يدق المقود بعنف ، ينتفض ، لا يشعر إن كان قد داس على دوّاسة البنزين ، فالسيارة تهدر فجأة ، تقفز ، تسقط في حفرة ، يرتج الركاب ولا يهتم بهم ، يفتح باب السيارة ، يخرج ، يركض ، يصرخ كالمجنون :
_ شاكر يسري ……
_ أنا شـــــاكر يســــــري ….....
للإستزادة من نصوص الأستاذ سعادة ، يرجى زيارة قرنته في منتديات سنجل الباسلة
وعلى الرابط التالي :
https://turathmo5ayam.yoo7.com/t1969-topic